فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



واعلم أن تقدير الصلوات بهذه الأوقات الخمسة في نهاية الحسن والجمال نظرًا إلى المعقول، وبيانه أن لكل شيء من أحوال هذا العالم مراتب خمسة: أولها: مرتبة الحدوث والدخول في الوجود، وهو كما يولد الإنسان ويبقى في النشو والنماء إلى مدة معلومة، وهذه المدة تسمى سن النشو والنماء.
والمرتبة الثانية: مدة الوقوف، وهو أن يبقى ذلك الشيء على صفة كماله من غير زيادة ولا نقصان وهذه المدة تسمى سن الشباب.
والمرتبة الثالثة: مدة الكهولة، وهو أن يظهر في الإنسان نقصانات ظاهرة جلية إلى أن يموت ويهلك، وتسمى هذه المدة سن الشيخوخة.
المرتبة الخامسة: أن تبقى آثاره بعد موته مدة، ثم بالآخرة تنمحي تلك الآثار وتبطل وتزول، ولا يبقى منه في الدنيا خبر ولا أثر، فهذه المراتب الخمسة حاصلة لجميع حوادث هذا العالم سواء كان إنسانًا أو غيره من الحيوانات أو النباتات، والشمس حصل لها بحسب طلوعها وغروبها هذه الأحوال الخمس، وذلك لأنها حين تطلع من مشرقها يشبه حالها حال المولود عندما يولد، ثم لا يزال يزداد ارتفاعها ويقوى نورها ويشتد حرها إلى أن تبلغ إلى وسط السماء، فتقف هناك ساعة ثم تنحدر ويظهر فيها نقاصانات خفية إلى وقت العصر، ثم من وقت العصر يظهر فيها نقصانات ظاهرة فيضعف ضوؤها ويضعف حرها، ويزداد انحطاطها وقوتها إلى الغروب، ثم إذا غربت يبقى بعض آثارها في أفق المغرب وهو الشفق، ثم تنمحي تلك الآثار وتصير الشمس كأنها ما كانت موجودة في العالم، فلما حصلت هذه الأحوال الخمسة لها وهي أمور عجيبة لا يقدر عليها إلا الله تعالى لا جرم أوجب الله تعالى عند كل واحد من هذه الأحوال الخمسة لها صلاة، فأوجب عند قرب الشمس من الطلوع صلاة الفجر شكرًا للنعمة العظيمة الحاصلة بسبب زوال تلك الظلمة وحصول النور، وبسبب زوال النوم الذي هو كالموت وحصول اليقظة التي هي كالحياة، ولما وصلت الشمس إلى غاية الارتفاع ثم ظهر فيها أثر الانحطاط أوجب صلاة الظهر تعظيمًا للخالق القادر على قلب أحوال الأجرام العلوية والسفلية من الضد إلى الضد، فجعل الشمس بعد غاية ارتفاعها واستعلائها منحطة عن ذلك العلو وآخذة في سن الكهولة، وهو النقصان الخفي، ثم لما انقضت مدة الكهولة ودخلت في أول زمان الشيخوخة أوجب تعالى صلاة العصر.
ونعم ما قال الشافعي رحمه الله: أن أول العصر هو أن يصير ظل كل شيء مثليه، وذلك لأن من هذا الوقت تظهر النقصانات الظاهرة، ألا ترى أن من أول وقت الظهر إلى وقت العصر على قول الشافعي رحمه الله ما ازداد الظل إلا مثل الشيء، ثم إن في زمان الطيف يصير ظله مثليه، وذلك يدل على أن من الوقت الذي يصير ظل الشيء مثلًا له تأخذ الشمس في النقصانات الظاهرة، ثم إذا غربت الشمس أشبهت هذه الحالة ما إذا مات الإنسان، فلا جرم أوجب الله تعالى عند هذه الحالة صلاة المغرب، ثم لما غرب الشفق فكأنه انمحت آثار الشمس ولم يبق منها في الدنيا خبر ولا أثر، فلا جرم أوجب الله تعالى صلاة العشاء، فثبت أن إيجاب الصلوات الخمس في هذه الأوقات الخمسة مطابق للقوانين العقلية والأصول الحكمية، والله أعلم بأسرار أفعاله. اهـ.

.قال الألوسي:

{إِنَّ الصلاة كَانَتْ عَلَى المؤمنين كتابا} أي مكتوبًا مفروضًا {مَّوْقُوتًا} محدود الأوقات لا يجوز إخراجها عن أوقاتها في شيء من الأحوال فلابد من إقامتها سفرًا أيضًا، وقيل: المعنى كانت عليهم أمرًا مفروضًا مقدرًا في الحضر بأربع ركعات وفي السفر بركعتين فلابد أن تؤدى في كل وقت حسبما قدر فيه، واستدل بالآية من حمل الذكر فيما تقدم على الصلاة وأوجبها في حال القتال على خلاف ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {إِنَّ الصلاة كَانَتْ عَلَى المؤمنين كِتَابًا مَّوْقُوتًا}.
ذكر في هذه الآية الكريمة أن الصلاة كانت ولم تزل على المؤمنين كتابًا أي: شيئًا مكتوبًا عليهم واجبًا حتمًا موقوتًا أي: له أوقات يجب بدخولها ولم يشر هنا إلى تلك الأوقات، ولكنه أشار لها في مواضع أخر كقوله: {أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس إلى غَسَقِ الليل وَقُرْآنَ الفجر إِنَّ قُرْآنَ الفجر كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78] فأشار بقوله: {لِدُلُوكِ الشمس} وهو زوالها عن كبد السماء على التحقيق إلى صلاة الظهر والعصر وأشار بقوله: {إلى غَسَقِ الليل} وهو ظلامه إلى صلاة المغرب والعشاء وأشار بقوله: {وَقُرْآنَ الفجر} إلى صلاة الصبح وعبر عنها بالقرآن بمعنى القراءة. لأنها ركن فيها من التعبير عن الشيء باسم بعضه.
وهذا البيان أوضحته السنة إيضاحًا كليًا، ومن الآيات التي أشير فيها إلى أوقات الصلاة كما قاله جماعة من العلماء.
قوله تعالى: {فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الحمد فِي السماوات والأرض وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 17- 18] قالوا: المراد بالتسبيح في هذه الآية الصلاة وأشار بقوله: {حِينَ تُمْسُونَ} إلى صلاة المغرب والعشاء وبقوله: {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} إلى صلاة الصبح وبقوله: {وَعَشِيًّا} إلى صلاة العصر وبقوله: {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} إلى صلاة الظهر، وقوله تعالى: {وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار وَزُلَفًا مِّنَ الليل} [هود: 114]. وأقرب الأقوال في الآية أنه أشار بطرفي النهار إلى صلاة الصبح أوله وصلاة الظهر والعصر آخره أي: في النصف الأخير منه وأشار بزلف من الليل إلى صلاة المغرب والعشاء.
وقال ابن كثير: يحتمل أن الآية نزلت قبل فرض الصلوات الخمس، وكان الواجب قبلها صلاتان: صلاة قبل طلوع الشمس، وصلاة قبل غروبها، وقيام الليل، ثم نسخ ذلك بالصلوات الخمس، وعلى هذا فالمراد بطرفي النهار بالصلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها والمراد بزلف من الليل قيام الليل.
قال مقيده- عفا الله عنه- الظاهر أن هذا الاحتمال الذي ذكره الحافظ ابن كثير- رحمه الله- بعيد. لأن الآية نزلت في أبي اليسر في المدينة بعد فرض الصلوات بزمن فهي على التحقيق مشيرة لأوقات الصلاة، وهي آية مدنية في سورة مكية وهذه تفاصيل أوقات الصلاة بأدلتها المبينة لها من السنة، ولا يخفى أن لكل وقت منها أولا وآخرًا، أما أول وقت الظهر فهو زوال الشمس عن كبد السماء بالكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقوله تعالى: {أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس} [الإسراء: 78] فاللام للتوقيت ودلوك الشمس زوالها عن كبد السماء على التحقيق.
وأما السنة فمنها حديث أبي برزة الأسلمي عند الشيخين. كان النَّبي صلى الله عليه وسلم يصلي الهجير التي تدعونها الأولى حين تدحض الشمس الحديث، ومعنى تدحض: تزول عن كبد السماء.
وفي رواية مسلم: حين تزول.
وفي الصحيحين عن جابر رضي الله عنه كان النَّبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة، وفي الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه أنه خرج حين زاغت الشمس فصلى الظهر وفي حديث ابن عباس عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «أمني جبريل عند باب البيت مرتين فصلى بي الظهر حين زالت الشمس» الحديث أخرجه الإمامان الشافعي وأحمد، وأبو داود وابن خزيمة والدارقطني والحاكم في المستدرك وقال: هو حديث صحيح.
وقال الترمذي: حديث حسن فإن قيل في إسناده عبد الرحمن بن الحرث بن عياش بن أبي ربيعة، وعبد الرحمن بن أبي الزناد، وحكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف وكلهم مختلف فيهم، فالجواب أنهم توبعوا فيه فقد أخرجه عبد الرزاق عن العمري عن عمر بن نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه عن ابن عباس نحوه.
قال ابن دقيق العيد: هي متابعة حسنة، وصححه ابن العربي، وابن عبد البر إ. ه، مع أن بعض راياته ليس في إسنادها عبد الرحمن بن أبي الزناد بل سفيان، عن عبد الرحمن بن الحارث المذكور، عن حكيم بن حكيم المذكور، فتسلم هذه الرواية من التضعيف بعبد الرحمن بن أبي الزناد، ومن هذه الطريق أخرجه ابن عبد البر، وقال: إن الكلام في إسناده لا وجه له، وكذلك أخرجه من هذا الوجه أبو داود، وابن خزيمة، والبيهقي، وعن جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- أن النَّبي صلى الله عليه وسلم: «جاءه جبريل، عليه السلام، فقال له: قم فصله فصلى الظهر حين زالت الشمس» الحديث، أخرجه الإمام أحمد، والنسائي، والترمذي، وابن حبان، والحاكم. وقال الترمذي: قال محمد: يعني البخاري، حديث جابر، أصح شيء في المواقيت.
قال عبد الحق: يعني في إمامة جبريل، وهو ظاهر، وعن بريدة رضي الله عنه أن النَّبي صلى الله عليه وسلم سأله رجل عن وقت الصلاة، فقال: «صل معنا هذين اليومين، فلما زالت الشمس أمر بلالًا رضي الله عنه فأذن ثم أمره فأقام الظهر» الحديث أخرجه مسلم في صحيحه، وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه «أن النَّبي صلى الله عليه وسلم أتاه سائل يسأله عن مواقيت الصلاة إلى أن قال: ثم أمره، فأقام بالظهر حين زالت الشمس، والقائل يقول: قد انتصف النهار، وهو كان أعلم منهم» الحديث، رواه مسلم أيضًا، والأحاديث في الباب كثيرة جدًا.
وأما الإجماع، فقد أجمع جميع المسلمين على أن اول وقت صلاة الظهر هو زوال الشمس عن كبد السماء، كما هو ضروري من دين الإسلام.
وأما ىخر وقت صلاة الظهر، فالظاهر من أدلة السنة فيه، أنه عندما يصير ظل كل شيء مثله من غير اعتبار ظل الزوال، فإن في الأحاديث المشار إليها آنفًا، أنه في اليوم الأول صلى العصر عندما صار ظل كل شيء مثله في إمامة جبريل، وذلك عند انتهاء وقت الظهر، وأصح شيء في ذلك ما اخرجه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وقت صلاة الظهر ما لم يحضر العصر» وهذا الحديث الصحيح يدل على أنه إذا جاء وقت العصر، فقد ذهب وقت الظهر، والرواية المشهورة عن مالك- رحمه الله تعالى- أن هذا الذي ذكرنا تحديده بالأدلة، هو وقت الظهر الاختياري، وأن وقتها الضروري يمتد بالاشتراك مع العصر إلى غروب الشمس.
وروي نحوه عن عطاء، وطاوس، والظاهر أن حجة أهل هذا القول الأدلة الدالة على اشتراك الظهر والعصر في الوقت، فمن حديث ابن عباس المشار إليه سابقًا «فصلى الظهر في اليوم الثاني في الوقت الذي صلى فيه العصر في الأول» وعن ابن عباس أيضًا قال: «جمع النَّبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة من غير خوف، ولا سفر» متفق عليه، وفي رواية لمسلم «من غير خوف، ولا مطر» فاستدلوا بهذا على الاشتراك، وقالوا أيضًا: الصلوات زيد فيها على بيان جبريل في اليوم الثاني، فينبغي أن يزاد في وقت الظهر.
قال مقيده- عفا الله عنه- الظاهر سقوط هذا الاستدلال، أما الاستدلال على الاشتراك بحديث ابن عباس «فصلى الظهر في اليوم الثاني في الوقت الذي صلى فيه العصر، في اليوم الأول» فيجاب عنه بما أجاب به الشافعي- رحمه الله- وهو أن معنى صلاته للظهر في اليوم الثاني فراغه منها، كما هو ظاهر اللفظ، ومعنى صلاته للعصر في ذلك الوقت، في اليوم الأول ابتداء الصلاة، فيكون قد فرغ من صلاة الظهر في اليوم الثاني عند كون ظل الشخص مثله، وابتدأ صلاة العصر في اليوم الأول ابتداء الصلاة، عند كون ظل الشخص مثله أيضًا، فلا يلزم الاشتراك، ولا إشكال في ذلك. لأن آخر وقت الظهر، هو أول وقت العصر، ويدل لصحة هذا الذي قاله الشافعي، ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي موسى رضي الله عنه «وصلى الظهر قريبًا من وقت العصر بالأمس» فهو دليل صحيح واضح في أنه ابتدأ صلاة الظهر في اليوم الثاني قريبًا من وقت كون ظل الشخص مثله، وأتمها عند كون ظله مثله كما هو ظاهر، ونظير هذا التأويل الذي ذهب إليه الشافعي.
قوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ} [الطلاق: 2] وقوله تعالى: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} [البقرة: 232] فالمراد بالبلوغ الأول مقاربته، وبالثاني حقيقة انقضاء الأجل.
وأما الاستدلال على الاشتراك بحديث ابن عباس، المتفق عليه أنه صلى الله عليه وسلم: «جمع بالمدينة من غير خوف، ولا سفر» فيجاب عنه بأنه يتعين حمله على الجمع الصوري جمعًا بين الأدلة، وهو أنه صلى الظهر في آخر وقتها حين لم يبق من وقتها إلا قدر ما تصلى فيه، وعند الفراغ منها دخل وقت العصر فصلاها في أوله، ومن صلى الظهر في ىخر وقتها، والعصر في أول وقتها كانت صورة صلاته صورة الجمع، وليس ثم جمع في الحقيقة. لأنه أدى كلًا من الصلاتين في وقتها المعين لها، كما هو ظاهر، وستأتي له زيادة إيضاح إن شاء الله.